سنبوح، عَلّ البوح يكون
خطوتنا الأولى نحو ثورتنا حتى على أنفسنا، نصنع انتصاراً بعد الانتصار، ونضع راية
فوق الراية، سنحكي ونخرج ونقف، كما كنا.. وكما نحن.
يوم طويل قضيته في العمل الذي لا ينتهي، نبدأ الأشياء
بشغف وننهيها بملل، لا نقو حتى على وضع نهايات لائقة، نظن أننا سنحافظ على عقولنا
ما دمنا داخل جدراننا الخاصة، إلا إن كل شيء ينهدم دون أن نشعر، نتغير، حتمًا
سنتغير.
إشارات بسيطة لا تُرى بالعين، بعض المشاعر التي قد يختلط
عليك أمرها فلا تكاد تجزم بحقيقة ما تشعر به، يمر كل شيء فتدري في النهاية أن
النقاط كانت ترسم خطوطا، والخطوط تصنع أشكالا؛ قد تكون بسيطة في البداية ثم
تتداخل، فلا ترى حدوداً وتتوه دون أن تملك سوى الانتظار حتى الاكتمال، فتستطيع
بعقلك المُرهَق أن ترى.
بدلت «الاسكارف» الملون بآخر أسود كنت أحضرته معي منذ
الصباح، جهزت نفسي على أني سأخرج من العمل إلى منزل صديقتي لأعزيها في وفاة
والدها، كان مِشوارٌ صعبًا ليس لأنه عزاء بقدر ما كان «عزاء والد صديقتي» والتي مرت
علاقتي معها بالكثير من النقاط والخطوط وتيه الحدود!
في تلك الأوقات تنتظر من نفسك أن تعطي وتكون كمن لا
ينافسه أحد، وأن تفعل ذلك لا إراديا، وأن تكن ما لا تدريه أفعالاً، لكنك توقنه
شعوراً، ولذلك وحده تُقدم دون تردد أو تراجع.
خرجت بعد أن بدلت ملابسي، قمت بطلب «كريم» وتهت بعض
الوقت في شوارع وسط البلد بحثا عن "ATM" بعد ان اكتشفت أني
لا أملك المال الكافي، وبعد طول بحث وانتظار غير مرتب، أوشكت على الوصول.
لماذا لا تلتأم الجروح، لماذا نتذكر وكأننا نتتبع
الآثار، لماذا نسقط وكأننا أبدًا لم نقم؟
جلست مع صديقتي التي بدت شاردة الذهن ومرهقة من سفرها
الطويل.
علمت هي بخبر الوفاة
بينما كانت خارج مصر، لم تتعبها آثار الرحلة الخارجية بقدر ما أنهكها سفرها
الداخلي، روح متنقلة من فكرة إلى أخرى وكل واحدة منها تحمل ما يكفي لدفعها أن تطلق
صرخة مدوية وسط الحاضرين، لكنها بدلاً من ذلك كانت صامته تماما، حتى ظن البعض أنها
مصابة بصدمة عصبية.
كنت أرى أن التحدث مع أحد عن الخسارة لهو نوع لا يغتفر
من الإهانة والتطاول، حزن الفراق الذي لا يعادله حزن، يبني سوراً لا يتجاوزه سواه،
ويهون بجانبه ما حسبناه كبير.
لم يكن لدي ما أقدمه لها سوى أني أردت احتضانها لساعات،
ماذا أقول لها، لا تحزني!
لم يكن شيئًا وقتها مهمًا، ليس سوى أن تعلم أن رؤيتها
حزينة تفطر قلبي -حرفيا-، وأني بغض النظر عن الأسباب أريد لهذا الحزن أن ينقضي،
وأن تزول كل مسببات الألم في الحياة.
وقت قصير أمضيته ثم عدت إلى منزلي متعبه وكالعادة اختفت
الحدود بين مشاعري فتهت فيها وما عدت أدري بما عليّ أن أفكر أو أشعر.
قبل ذلك بأيام قليلة كنت
أختبر مجموعة من المشاعر التي سيطرت علىّ رغم عدم منطقيتها؛ فأنا التي دومًا كنت
أسير حسب الخطة وأتبع الاتجاهات، كانت تسيطر عليّ فكرة «الخسارة»، وأني أريد
-للمرة الأولى- أن أخسر شيئًا كبيراً، لربما أستطيع بالمقارنة تحديد ماهية مشاعري،
وذلك كله عقب قصتي القصيرة جدًا مع قط أسود أسميته محب.
تفاصيل تجمع
ببراعة بين كونها عابرة وباقية، شربة واحدة من البحر لم تزدني إلا عطشًا! كانت
المرة الأولى التي تأكدت فيها أن حزننا الأكبر يجب أن يكون على كل ما لم نحظى
بالفرصة لفعله، وليس ما فعلناه.
اعتاد عقلي أن يقول لي،
احذري الهررة، لسنا بحاجة، ولسنا مستعدون، فقط انتظري فالوقت لم يحن، وعندما يأتي،
ستعلمين. اعتدت حتى أني لم أعد أفكر، قطعت صِلاتي، وأشحت بناظري عن إشارات أفهمها،
حتى جاء نهار يوم في وسط الأسبوع بينما كنت مشغولة تمامًا في أمر لا أذكره، اقتحم
قط منزلي من الأبواب الأمامية، أربك لي مواضع الأشياء، فارتبكت، وبقيت حائرة، كيف
دخل القط، أنا لم استدعيه، ولم آذن له بالدخول.
انتظرت قليلا ثم قلت،
«سأجلب له شيئًا ليأكله، ثم أخرجه، فالجو بارد، وأنا لا أكرهه على أية حال»، لم
تمر دقائق أخرى وأنا ناظرة إليه حتى فكرت بيني وبين نفسي أنه يبدو لطيفًا فقد أبقيه
للغد، أو لبعد غد.
استيقظت صباحًا وللقط
نظرة لم أفهمها، عينيه لامعة ومتلونه، يبدو وقد كبر حجمه عن الأمس شيئًا قليل، يتجول في منزلي بلا حرج، يدور، يجري، يلعب، ويأكل، وأنا لست منزعجة، لا أذكر متى
تحديدًا لكني كنت جالسة أكتب، حينما تمسك القط فجأة بقدمي وصعد حتى كتفي، كان
ناعمًا، وأسود، كان لطيفًا ومتسرع، وعلى كلٍ آنسني، فقلت: ستبقى!
بعد أيام أذكرها، تسلل
القط الأسود من الباب الخلفي دون أن ألاحظه، فأثار بفعلته الأنانية غضبي، دخل
عنيداً وخرج عنيد، كطفل عمره 6 سنوات لا أكثر، أو كقطٍ أسود لامع العينين.
طوال أيام ظللت أفكر، إلى
أي مدى يمكن أن نألف قط، كرهته أحيانًا وكرهتني أحيانًا أخرى، حاولت العودة لما
كنت مشغولة فيه من قبل، لكني لم أتذكر، وبمرور الوقت لم يعد همي القط بقدر ما
انشغلت بعقلي وانشغل هو بي، بدا وكأن لدينا الكثير لفعله، وكأننا -كالعادة- بحاجة
للجلوس سويًا كصديقين لم يلتقيا منذ زمن، وكأننا فقدنا لغتنا المشتركة؛ استدعاني
كمعلم صارم واستجوبني، فرددت السؤال
بمثله، بحثنا سويًا عن اتفاقات قديمة، لكنها بشكل أو آخر لم تعد كلها صالحة، فنظر
لي وضحك.
عدت إلى نفسي هاربة
وباحثة، لكني خرجت بـ "خفي حنين"، عدت إلى القط، لكنه ما تذكر، عدت إلى أبجديتي
فكتبت ألف حبكة، هذه آخرها.
دخل القط وخرج وتمت، ليس
له وليس لي، لست بالغرور الذي يُجحف قلبي عن الاعتراف، ولست بالسذاجة التي تجعله
يعلق.
أشعر أحياناً بوجود صوت
يتحدث خلف رأسي تمامًا، حين أرغب في الكتابة، يأتي الصوت في أي وقت وفي
أي مكان.
كنت جالسة في غرفتي ليلة
عودتي من العزاء حين جاء يلقي عليّ الكلمات بإصرار
أغلقت عيني من الخوف: لست
حقيقيًا
يُكمل غير مهتمًا، ويُعيد
جُمله بصوت أعلى وأعلى فأكاد ألمس الصوت وألمسه
أفتح عيني مرة أخرى
أشعر بحرارة أنفاسه، وتسري قشعريرة في جسدي كله
سأكتب
شمعة وسط ظلام
نورها يرقص كشعلة من الجنة
كشعلة من الحقيقة
هالة من الضوء، نقطة صغيرة وسط ظلمة واسعة
يبدو شكلها مُغر لكنه ليس سعيد
يذوب الشمع من الجانبين، لا شكل للذوبان
انفصال الجزء عن الكل
سقوطه إلى أسفل
يهوى كملاك متكسر الأجنحة
نفته السماء
موته المقدر
ومصيره المكتوب
اكتبي
هذا الصوت قريب!
المشهد ضيق
ولا يظهر سوى شمعة قريبة
شخص ما، صوتًا ما، قرر أن يجعلني أشاهد جيدًا
يذوب الشمع من الجانبين،
ولا أذكر سوى تلك الدائرة الذهبية وسط الأسود.
أخيراً نجحت إحدى
محاولاتنا في السفر، أيامًا قليلة في سيناء، بحر وجبال بعيدة، أجازة في وقتها مع
أشخاص نتحدث معهم، فيصغون.
كم تبدو الصحراء جميلة !
تلك المساحات الواسعة من الرمال الصفراء والجبال.
شعرت طوال الوقت أني جزء صغير تكفيه صخرة واحدة من صخور
ذلك الجبل العريض كي يختبىء خلفها إلى الأبد، وربما أذوب فيها مع الوقت فنصبح شيئًا
واحدًا، تختلط رائحتي برائحتها ويصبح ملمسنا سويا مختلف عن بقية الصخور.
كانت المرة الأولى التي
أشم فيها رائحة الجبل وأعرف ملمسه، لم يكن خشنًا كما حسبته، ولا أدري لماذا شعرت
بالإندهاش عندما وجدته ناعمًا، كان مسطحًا دون آية تراب، نظيفًا ودافئًا، جميلا
بطريقة لم أرها في حياتي، لم يكن قاسيا على الإطلاق، لم يكن جامداً -كعقلي-! من أخبرني قبل ذلك أن الجبل خشنًا؟ ..لا أحد.
رأيت نفسي جالسه داخل ذلك الجبل الذي وقعت في غرامه
بالتحديد، باقية دون وقت محدد، دون أجل محدد، دون غاية، دون سبب، جالسة هناك
للأبد، وكأني عدت لمكاني الأصلي!
كان عقلي ساكنًا للمرة الأولى منذ وقت طويل، لم أفهم في
البداية ماذا يحدث لي، لماذا يسكن على غير عادته.
ظلوا يسألونني، ماذا تشعرين، فلا أرد، بماذا يجعلك ذلك
تفكرين، فلا أجيب، ثم اكتشفت فجأة بعد وقت طويل أني لا أفكر في شيء على
الإطلاق، شيئًا ما أسكت عقلي، فما عدت أفكر سوى أني جزء من الكل، شيء من
الأشياء، لا أعدُ أن أكون بكل ضوضاء عقلي سوى تفصيلة لا تُرى بجوار هذا الجبل وفي
داخل تلك الصحراء، وتحت هذه السماء في تلك البقعة من الأرض، كل شيء ضخم بشكل لافت، ولا أشعر سوى أني في داخل الأشياء، وهو شعور مطمئن
إلى حد ما.
ليلة ويومان، قضيناهم في
الصحراء، استيقظت يومها باكراً، وشاهدت الشروق، ثم قررت أن أمشي حول الجبل الكبير
الذي خيمنا بقربه ليلاً، حيث دارت في رأسي للمرة الأولى الأفكار.
هل خسر الجبل، ماذا يمكن
أن يخسر، تنكسر إحدى صخوره الملساء فيبكي عليها، تموت واحدة من نباتاته البرية
فيرثيها، من فقدت يا جبل، هل تحزن؟
فجأة توقف عقلي عن الحديث
أمام ما أفعله ووجدت نفسي أقول بصوت عالٍ وأنا جالسة في الصحراء: "جننت رسمي، أنا أتحدث مع الجبل."
سأذهب لأرى إن كان الجميع
قد استيقظوا من نومهم، فلا أحداً ينام طويلا في الصحراء، كما أعتقد أن اليوم
أمامنا طويل.
- أشعر بالوحدة وأريد
العوده إلى بيتي
= وماذا ستفعلين بعودتك، تتركين عملك لأنك تشعرين
بالحزن، ثم ماذا، ستجلسين وحيدة في المنزل، لا شيء في هذه الحياة يبقى إلى الأبد، لا حزنًا يبقى حزن، لا فرحًا يبقى
فرح، لا مكسب يأتي بلا خسارة! (تنظير
لا معنى له، لكنه قابل للتصديق، كان عليّ أن أقوله).
حاولت أن أقنع صديقتي في
ذلك اليوم أن عملها هام، كان ذلك بعد العزاء بيوم أو اثنين لا أذكر بالتحديد،
لكني لم أتمكن من منع نفسي من
لعب دور «الناصحة»، رغم كل شيء.
سافرت هي على أن تعود
قريبًا لتقضي أيام العيد الكبير مع أسرتها، وانقضت أيامًا ذهبت أنا فيها لرحلة إلى
جنوب سيناء، حيث وجدت الصحراء، والجبل.
الحجرة مليئة بالكثير من
الأصوات، تتداخل جميعًا وتضحك، تعلو وتهبط وكأنها مقطوعة موسيقية تجد ذروتها في
فوضى الإيقاعات، تعزف نوتتها بمزيج من الحدة والغلظة فلا تميز إن كانت تريد الضحك
أو البكاء، فوضى بعضها فوق بعض.
قطع الصمت المفاجىء صوت «نداء»: هل ستأكلون، أشعر
بالجوع.
كنت لم أر أصدقاء المدرسة منذ فترة، وعندما رأيتهم تساءلت
إن كانوا هم الأشخاص الذين عرفتهم من قبل، لا يمكن أن أذهب ولا أحتمل أن أبقى،
فليبقَ الوضع على ما هو عليه.
قالت «آلاء» وهي تصدق
حزنها: "طيبة كثيراً ضحى، تنازلت وقبلت وهي لا تستحق ذلك."
لم أمنع عقلي من الرد: نعم..لا تستحق ذلك، وإن كانت فلمَ
قبلت، لماذا يعشق الناس أن يعيشوا ضحايا في انتظار منقذهم، تعلمت قبل أن أتم
العشرين أني إن لم أقف لما أريد، فلن يفعل أحد ذلك عوضًا عني، وإن لم أرفع صوتي
بما أشعر سيظل حبيسًا ما دمت صامته.
ضحى "ضحية"، ونحن لسنا جناه، فلمن اللوم ؟
كانت ضحى شهيرة في مدرستنا
الثانوية، كنا نقول لها إن تحولت قصتك لفيلم لن يصدقه أحد لكثرة ما فيه من دراما «هيفتكروها فيلم هندي»..ونضحك!
مات والدا ضحى في حادث عندما كانت صغيرة وعاشت مع
خالتها، التي لم تكن قريبة من أمها بالأساس وبالتالي لم تشعر معها ضحى يوما
بالأمان الذي وجدته بالصدفة عند «خالد»، جارهم من منزلها القديم، وكأنه يذّكرها
بما فقدت.
«خالد» لم يكن أفضل فرصها في الحياة، وهو الأمر الذي لم
ترغب -عن قصد- في فهمه، فقد عرف جيدًا أنها لن تتركة ولذلك بالتحديد قرر أن
يتركها، مرة بعد مرة بعد مرة لأسباب مختلفة وكلها "تافهة".
ضحى..كان يجب على خالتها أن تقف معها، كان يجب على «خالد»
ألا يكون مستغلا، كان يجب علينا أن نكون أكثر حضورًا عندما شغلتنا الحياة، كان يجب
على الجميع، ولم يجب عليها، فهي ضحية!
نصمت ونظن أننا في جوف
البئر، ننسى أو نتناسى صوت «يوسف»، ستحب وأنت في الأسفل تقفي آثار الألم وكأنه أرنب
في صحراء دون أن تفهم السبب.
يوم لطيف، انتهى سريعًا، لم يعط عقلي سوى مزيدًا من الأسئلة، لكنها ليلة قلقة،
استيقظت عدة مرات، والآن..كم الساعة؟
أمسكت
"الموبايل" الموجود دائماً بجواري، الرابعة فجراً.
أقلعت طائرة صديقتي، كان
يجب أن تسافر منذ ساعات، لقد حاولت الإتصال بي في الثانية، لكنى بالتأكيد كنت
نائمة، اعتقد اني استيقظت قبل الثانية ببضع دقائق ثم عدت للنوم،
وحاولت الاتصال بها أمس، إلا أنها لم تجب.
لو أني بقيت مستيقظة عدة
دقائق بعد الثانية، أواستيقظت متأخرة، أو حتى لو أنها غيرت موعد إتصالها
دقائق قليلة.
سافرت صديقتي للمرة الـ..
لا أذكر رقمها، انتهى العيد، ولا انتظر عودتها في أي وقت من هذا العام.
انتفضت في اليوم التالي
على صوت إصطدام سيارتان متبوعًا بالكثير من الأصوات المتداخلة لمزيج من الشتائم
والتهديد والصريخ.
"يا صباح الخير..هو
ده يوم الأجازة": قلت لنفسي وأنا شبه نائمة.
خرجت لعمل «النسكافيه»، وعندما عدت كان الوضع
تغير تمامًا، لم أجد سوى صوت ذكرى القادم من شباك جيراننا: «أنت عارفني وآه يا
حبيبي بحتار حتى إن غبت ساعات..لازم أشوفك وأسمع صوتك، مااتعودتش ع الجوابات..»
جلست أمام
"اللاب" بلا هدف، أتصفح الكثير من المواقع الغير هامة، مررت أمام بعض
الأخبار، ثم تغير انتباهي تمامًا بتتبع رائحة شهية قادمة من المطبخ، حيث وجدت أمي.
- "تاكلي كنافة..كلنا
أكلنا امبارح ماعدا انتي"
- "آه. ما أنا سألتك بليل
لو عايزة تاكلي، وفضلت أقولك في أكل، عاملين كنافة، بس كالعاده قلتي الحمد لله
ودخلتي أوضتك".
= "لأ..مادام في كنافة،
يبقى آكل طبعًا".
قلت وأنا أنهي قطعتي
الأولى: "حلوة جداً، تسلم ايدك".
- "ما أنا عارفة انك بتحبي
الكنافة"
= "أنا بحب الكنافة ! ..
قلت لأمي بالكثير من نظرات الدهشة".
- "آة بتحبيها جداً، كل
مرة أعملها تقوليلي حلوة، حتى لو مش مظبوطه أوي، انتي مابتعمليهاش كتير ليه،
وتفضلي واقفة في المطبخ لحد ما الصنية تخلص، انتي عبيطه! طبعًا بتحبي الكنافة".
"أنا بحب الكنافة؟!" ..رددت الجملة
أكثر من مرة، وأنا آكل واحدة أخرى من بين قطع أخيرة متبقية.
ذهبت إلى عرفتي بعد أن
عاد الصوت إلى عقلي، وفتحت الـ word لأكتب من جديد:
«للحقائق سحر خفي لا يشعر
به إلا من يبحث عنه، كأن تقول إن طعام والدتك هو الأفضل، لكنك في الوقت نفسه لا
تذكر ما هو أول شيء أكلته من يديها و ظل عالقًا في ذهنك بطريقة ما، أنت لا تعرف
ماذا تفعل هي ليبدو كل شيء من يديها مختلفا، ما هو السر الذي يجعل (أرزها) مختلف
المذاق رغم أن الجميع يطهونه تقريبًا بنفس الطريقة، متى كانت اللحظة التي عرفت
فيها أنك تحب تلك الرائحة بالتحديد، أشياء على بساطتها تتطلب بحثًا، وتنير شيئًا في
الروح.»
نظرت إلى يميني حيث تسللت
أشعة الشمس من شباك غرفتي حتى وصلت إلى قدماي، فقمت -كالعادة- لأسير على الخط
الدافىء الذي رسمته بطول الغرفة، ذهابًا وعودة على أطراف أصابعي، وابتسم، أحببت
الشمس مؤخراً دون سبب واضح، أفتقد غيابها ويبهجني كالأطفال اللعب معها. دقائق ثم
عدت لأكمل ما أكتبه: «الشمس.. تضيء حولي وداخلي، تضىء الكون، تضىء الظلام، تكشف
النقص لنرى الحقيقة، تحدثنا كل يوم عن الخسائر التي تصنع منا أشخاصًا جدد وتفتح
عقولنا على طرقًا ظننا أنا مررنا بها، وتكشف عن زوايا للنور لم تخطر لنا على بال»
قالت لي فجأة، لنذهب إلى
الداخل بعيداً عن الضوضاء، كنا اعتدنا على الجلوس في هذه الغرفة قديمًا، كم عامًا
على صداقتنا! شعرت بأمل طفيف في أنها ستخرج عن حالة الصمت وتتحدث، في أي شيء، لا
يهم.
= "الملك والدوام لله .. شكراً يا طنط"
- "البقاء لله يا حبيبتي..ربنا يصبركم"
= "الدوام لله..آمين يارب"
ثم جلست بالقرب مني، أو
جلست بالقرب منها، وضعت رأسها على كتفي، فرفعت يدي لأضمها أكثر، وأصبح رأسها على
صدري.
- «أعرفك بقالي كام سنة
ودي أول مرة أسمع صوت دقات قلبك»، قالتها وابتسمت.
= "وسامعه ايه بقى..لقيتي
دقات قلبي عاملة ازاي؟"
- "شبه الموسيقى..بوم تاك،
بوم تاك، بوم تاك"، وضحكنا.
كانت ضحى آخر الحاضرين في
إجتماعنا الصغير، والحقيقة أن لا أحد كان يستطيع إخفاء فضوله لمعرفة ماذا يحدث
معها، وبقدر ما كنت انتقد بيني وبين نفسي بوحها الدائم والمستمر بكل شيء للجميع،
إلا أني كنت أري في حديثها ميزة، لا أملكها. أعتقد أني يومًا ما سأحتاج لأحدٍ كي
يحمل معي روحي الثقيلة، بينما ستظل هي خفيفة دائمًا، فأبوابها المفتوحة التي جلبت
لها الحزن، كانت ذاتها مخرجها منه، كان حديثها يدور حول الخسارة والإنتظار، ورغم
محاولتها في أن تبدو «بخير» وحتى «خفيفة الظل» أحيانًا، لكني كنت ألمح في عينيها
كلامًا آخر، كلامًا أعرفه، رأيته من قبل، وودت لو قلت لها أننا خسرنا فقط من
أحبونا على حرف، ورغم أنهم أخذوا منا وعاشوا فينا، لكن علينا أن نتقبل بعد ذلك
أنهم غفوا في نوم عميق، حالهم كمن أكل أكثر من طاقته بعد منتصف الليل، فسهرنا
وحدنا، وشربنا وحدنا، وحلمنا وحدنا، منتظرين شبحًا لن يعود، في خسارتهم كسرة للقلب
ونضج للعقل ووحشة في الروح.
العديد من الأشياء تحدثنا
عنها، لكنهم كانوا يعودون دائمًا إليها، يستندون إلى قصتها، يضربون بها المثل،
يقيسون عليها التجارب، أردت في بعض الأحيان أن أرمي على وجوههم الماء وأمشي، لكني
بقيت.
عندما انتهى حديثنا
وقمنا، سارت معي ضحى، وفي الطريق سألتني عن
نفسي وعملي، فبادلتها الأسئلة، ثم تحدثت وحدها، كان سيلاً من الحديث لا
يقف.
أنا مثلك تمامًا يا ضحى،
انتظر من نفسي كل يوم أن أنسى، أن أترك كل شيء خلفي وأصبح ذلك المخلوق الخرافي
الذي يخرج من وسط النار رافعًا رأسه ويديه للسماء، انتظرت أن تنبت لي الأجنحه وأن
أتحول إلى شكلي الجديد في دورة الحياة، انتظرت أن أستيقظ يومًا ما وأنا في حال أفضل،
في حال أقوى، انتظرت أن أتخطى تلك الحالة من (الزمكان) الروحي، فلا أنا أدري متى
وكيف ولا أجرؤ على ذكر لماذا، انتظرت حتى تساءلت متى ينتهي انتظاري.
أنا لم أعد أميز الأشكال
والأماكن والروائح والروابط، ما عاد بإمكاني حساب المساحات، لم يعد بإمكاني الجزم
والتأكد، أشعر أن عليّ أن أعيد كل شيء للبدايات، فأدخل في جدالات مع نفسي حول كل
الأمور؛ ما هي ألواني المفضلة، ما هو رقمي المميز، ماذا أريد من أصدقائي، ما هي
المساحات التي عليّ أن أمنحها لهم، ماذا أريد لنفسي، ماذا يجب عليّ أن أدرس، ماذا
يجب عليّ أن أعمل، ماذا أحب، ماهو نوع أفلامي المميز، كل شيء.
شيئًا ما تغير داخلي منذ
أن جلست مع صديقتي تلك الليلة على كرسي طاولتهم الكبيرة ورحت انظر لعينيها
الصامتتين، أشعر وكأني لازلت هناك، الحقيقة أني لم أبرح ذلك المكان قط، لم أتركها
ليلتها وأذهب لبيتي، توقف الزمن، وتجمدت اللحظة، وابتلعني حوت أبيض سقط على رأسي
من السماء.
جاء أصدقائنا من الخارج
في أسود ملابسهم: «سنمشي الآن، تأخر الوقت، لكننا سنأتي غداً في العزاء بالجامع». نظرت
إلى ساعاتي، تأخر الوقت بالفعل، عليّ أن أمشي أنا أيضًا، رغم أني تمنيت لو بقيت
معها وقتًا أكثر.
التفت لها: "أنا كمان
همشي".
- "بس انتي.."
= "عارفه، أنا جيت متأخر،
بس هاجي بكره والله، أنا جاية بكرة إن شاء الله، هبقى معاكي ماتقلقيش".
احتضنتها مرة أخيرة،
طويلاً، ومشيت.
اخترق صوت "جورج
هاريسون" رنين هاتفي، فنظرت: "أعتقد أني أعلم لمن ذلك الرقم
الدولي".
= "ألووو..كل سنة وأنتي
طيبة، عقبال 100 سنة يارب، وحشتيني، ماكانش ينفع أفوت اليوم من غير ما أكلمك".
- "وأنتي طيبة، ربنا
يخليكي، وحشتيني، هتيجي امتى؟"
= "بحاول اظبطها على خطوبة
سلمى، بس لسه مافيش حاجه أكيد، لسه حتى مش عارفين المعاد امتى".
- "صحيح، الحمدلله، ماحدش
عارف الخير فين، ترجعيلنا بالسلامة يارب".
- "عقبال مليون سنة، اتبسطي النهاردة".
أفتقد وجودها كثيراً،
ولطالما كنت كذلك، حتى عندما ادعيت العكس، كنت غاضبة، لكني كنت أحبها.
عندما تعود سأخبرها عن
دروس الرقص الجديدة، وماحدث مع أصدقاء الورشة، وعن غادي، وعن سمر، ورفيق، وقراراتي
الأخيرة التي ما زلت غير أكيدة منها، وفستان خطوبة سلمى، وكيف أننا لأجلها سنضطر
لارتداء ملابس صيفية في عز البرد، وكل ما حدث معي منذ أن أقلعت طائرتها فجراً. ضغطت
على play ليعود
صوت هاريسون من جديد:
Little
darling, I
feel that ice is slowly melting
Little darling, it seems like years since it's
been clear
Here comes the sun
Here comes the sun, and I say
It's all right